القائمة الرئيسية

الصفحات

تشاغوس وغزة: جرائم التهجير القسري.. سِيَرٌ متكررة في سجل الاستعمار


تشاغوس وغزة: جرائم التهجير القسري.. سِيَرٌ متكررة في سجل الاستعمار


بقلم مختار أبوالخير 


في خضم الجدل الدائر حول تصريحات سياسية مثيرة للجدل، مثل تلك التي يطلقها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حول تهجير سكان غزة، تطفو على السطح قصةٌ مأساوية من القرن العشرين تُذَكِّر العالم بأن سياسات التهجير القسري ليست جديدة، بل هي جزء من تراث استعماري طويل. قصة أرخبيل تشاغوس، التي طُويت صفحاتها بدماء السكان الأصليين، تُعيد نفسها اليوم في فلسطين، لتكشف أن "العدو" الحقيقي ليس فرداً أو كياناً وحسب، بل منظومةً استعماريةً تختزل البشر في أرقام على خريطة الهيمنة.  


 من تشاغوس إلى غزة: نفس الأدوات، نفس الجرائم  


في عام 1965، وبينما كان العالم منشغلاً بالحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تنسجان خيوط واحدة من أبشع جرائم التهجير القسري في التاريخ الحديث: إخلاء أرخبيل تشاغوس الاستراتيجي في المحيط الهندي من سكانه الأصليين. لم تكن الجزيرة مجرد نقطة جغرافية، بل ممراً حيوياً للسيطرة العسكرية. لكن تحقيق هذا الهدف تطلب التخلص من "العقبتين": تبعية تشاغوس القانونية لموريشيوس، ووجود آلاف السكان الذين عاشوا هناك لأجيال.  


العقبة الأولى: صفقة الاستقلال المسمومة

 

تحت حجة منح موريشيوس استقلالها عن بريطانيا، نُفِّذت صفقة سرية ثلاثية الأطراف: تنازلت موريشيوس عن تشاغوس مقابل استقلال وهمي، بينما حصلت بريطانيا على تقنيات عسكرية أمريكية متطورة (غواصات بولاريس)، ودفعت واشنطن 3 ملايين دولار لزعماء الجزيرة كـ "تعويض". لم تكن الصفقة سوى غطاءً قانونياً لاحتلال استعماري جديد.  


العقبة الثانية: إبادة مجتمع بأكمله


أما التحدي الأكبر فكان السكان الأصليين، الذين رفضوا مغادرة أرضهم. هنا، تحولت السياسة الاستعمارية إلى وحشية ممنهجة:  

- حصار اقتصادي: قطع الإمدادات عن الجزيرة بالكامل، ومنع السفن المدنية من الوصول.  

- إبادة مصادر العيش: صودرت المواشي والدواجن وأُحرقت، بينما شوهدت الكلاب تُشوى حية أمام أصحابها.  

- تعذيب ممنهج: ربط المعترضين وإغراقهم، وارتكاب انتهاكات جنسية ضد النساء.  

- تهجير قسري: نقل الناجين بالسفن الحربية، وإلقاء 400 شخص (معظمهم من المرضى وكبار السن) في البحر لمواجهة أسماك القرش.  


لم يكن مصير الناجين أفضل: تشردوا في بريطانيا ودول أخرى دون جنسية أو حقوق، وانتحر الكثيرون بعد أن رفضوا التسول أو بيع بناتهم.  

دييغو غارسيا: قاعدة عسكرية على أنقاض الإنسان  


بعد إخلاء تشاغوس، بنت الولايات المتحدة قاعدة "دييغو غارسيا" العسكرية، التي أصبحت لاحقاً مركزاً رئيسياً لشن حروب العراق وأفغانستان. القاعدة، التي تضم آلاف الجنود وأسلحة نووية، لم تكن إلا الوجه الآخر لعملية التهجير: تحويل الأرض المسلوبة إلى أداة حرب ضد شعوب أخرى.  


تشاغوس 1965 = غزة 2024؟  


اليوم، تتكرر نفس السيناريوهات في قطاع غزة، حيث تُطرح خطط لتهجير السكان قسراً إلى مصر أو الأردن، بينما تُناقش مشاريع لتحويل الشاطئ الفلسطيني إلى مناطق سياحية وقواعد عسكرية. تصريح ترامب الشهير: "نحن قررنا، وسوف ننفذ"، ليس انفلاتاً فردياً، بل تعبيراً صريحاً عن عقيدة استعمارية تؤمن بأن "القوة تخلق الحق".  


لكن الفارق الجوهري بين تشاغوس وغزة هو أن الأخيرة تمتلك سلاحاً لم يكن بحوزة سكان الأرخبيل: **إرادة شعبٍ يرفض أن يصبح رقمًا في معادلة الاستعمار**. فالقانون الدولي، الذي فشل في إنصاف تشاغوس، لن يكون المنقذ، بل الدرع الوحيد هو صمود الناس وقدرتهم على تحويل معاناتهم إلى قضية عالمية.  


العدو الحقيقي.. عندما تصبح الحضارةُ وحشاً

 

العدو ليس ترامب أو حكومة بعينها، بل هو منظومةٌ تختزل الشعوب في خدمة مصالحها. تشاغوس وغزة وجهان لعملة واحدة: الاستعمار لا يموت، بل يتجدد. والسؤال الأهم: هل سيستفيق العالم قبل أن تُكتب الفصول الأخيرة من مأساة غزة، أم سننتظر نصف قرن آخر لنتذمر من "جرائم الماضي"؟!

تعليقات