الشـريد .. من المجموعة القصصية الحصان للكاتبة سميحة المناسترلي
كتب - محمود الهندي
جلس شريداً مجاوراً لكشك الحلوى والسجائر، منتحياً تحت شجرة يابسة كالعجوز المنكسرة المتوارية، بائسة منحنية شبه ذابلة، تكاد لا تلمحها الأعين لولا ما يستر جسدها النحيل من ثوبٍ مهترئٍ مرتقٍ تعاف إبرة الحائك من ملامسته، خوفاً من تهتك نسيجه العتيق ( هكذا كان حال الشجرة )..!!، تموضع الشريد مفترشاً بعض الكراتين الممزقة على أرض الرصيف، وسط الميدان المزدحم بالمارة والمركبات المتننوعة بأحجامها وأصواتها المزعجة المختلفة المتباينة ما بين نقل وملاكي و"توكتوك"محاولا "حك" رأسه في حركة يائسة أو شبه مستحيلة، لإختراق أصابعه لشعره الكثيف الأشعث، هذا الشعر الأسود الذى تخلله المشيب، كحشائش غزاها العُشب الشيطاني الضار، فابتلع لونها الأصلي، طاغياً بعشوائية على منابت شعره، متحدياً أي محاولات لفك الإشتباك لتهذيب المنظر العام لرأسه ..اسقط في يده، استسلم للأمر الواقع، ناظرا بحسرة على جسده المتسخ وملابسه الرثة، التى لم يبدلها منذ زمن بعيد، تشهد عليها بقع الزيت بمختلف مساحتها وألوانها، وقد كونت لوحة تجريدية هي لسان حاله، لوحة غمست فرشاتها ببواقي صحون الفول، وزيوت الفلافل، ماء الطرشي، وتراب الأرصفة، يكتمل رعب هيئته عندما تلمح العين لون أظافره، التى يعلوها صباغ صفراء وسوداء اللون، بتكوينها اللولبي المنحنى، شبيهةٌ بمخالب حيوان بري مفترس، يختزن تحت أظافره طبقات من القذارة وفضلات الطعام .
كان الوضع يختلف لمن يعرفون عم" بركات" عن قرب، مثل "سلامة" مالك الكشك وابنه، فهما من يسمحان له بالجلوسِ والمبيت بجانب الكشك ليلاً اتقاءً من برد الشتاء القارس، هو بالنسبة لهما - رجل بركة للمكان - وكما يصرحون لزبائنهم : بالرغم من سوء مظهره وبؤسه، فهو رافض تماماً أن يستحم أو أن نأتي له بملابس أخرى !! عنده عزة نفس وكرامة عالية، عاشقاً للحيوانات ومسالم جدا، مضيفاً لكلماته هامسا في تحسر : شكله ابن ناس طيبين بس الزمن جار عليه .. مع أنه مش بيتكلم مع حد، حتى اسمه احنا اللي اخترناه .. ربنا يسترها على عبيده.. !! تابعه الشريد بنظرة عرفان ومودة، لم يكن الشريد يقبل أي مساعدة تصحبها نظرة مهانة، بل يرفضها بشدة أن لم تكن عن طيب خاطر، اكتسب الشريد شعبية وتعاطف أصحاب المحلات والمطاعم المجاورة للميدان في فترة قصيرة، مُرَحَباً به دائماً، الكل راغباٌ في رسم ابتسامة على وجهه لينال دعوة طيبة .
بينما كان يجلس ساهما في قدره، قفز فجأة من فرشته صارخا مخترقاً الميدان بسرعة البرق مقارنة بعمره الكبير وضعفه الواضح، ليختطف كلبا صغيرا من تحت إطارات السيارة التى توقفت بصورةٍ فجائية، مصدرة صرير مزعج، كادت تتسبب في حادث مروع، مصغياً إلى سباب السائقين بشتائم وألفاظ نابية طالت الأم والأب، وشكوى من فوضى المشردين والمجاذيب بالشوارع، تنبه ابن صاحب الكشك لهذه الجلبة بالميدان قبل ظهور الشرطة، فقام بجذب الشريد والكلب الصغير واخفاهما بمحل الكشري الواقع على ناصية الميدان، وضعاً إياه في زاوية مخفية بالمطعم موصياً عليه نادل المطعم حتى لا تقع عليه عين الشرطة، جلس الشريد متقوقع محتضنا الكلب الصغير المذعور، رابتاً عليه ليشعره بالأمان، مما ذكره بإبنه الوحيد بعد رحيل أمه وهو مجرد طفل رضيع، بريء لا حول له ولا قوة، رفضاً الزواج بعد فراق زوجته، وهب طفله محمود كل حياته، حتى كبر وتخرج من كلية الحقوق، وقام بتدريبه بمكتب المحاماة الخاص به، ليخطو ابنه أول خطوة في طريق حياته العملية، وهو فرحاً به وأكمل فرحته بإتمام زواجه على عروسٍ احبها واختارها لنفسه .. وكانت بداية النهاية.
هنا بكى الشريد معاتباً ابنه محتضنا الكلب الصغير : كده يا محمود يكون جزائى منك قضية حَجر على أبوك ؟!! هنا شعر بغصة في حلقه فاحتضن الكلب بقوة، كمن يداوي ألماً في جُرح كبير بأعماق قلبه .. جٌرح لا يندمل يكاد يعصره ليقضي عليه .. خاصة عند تذكره أن لحظة فرحته بخبر الحفيد القادم، كانت هي لحظة افصاح ابنه وزوجته عن مخططهما للإستيلاء على مكتبه، ومطالبته بعمل توكيل عام للإبن، بحِجة إن الوقت قد أزف كي يستريح الوالد الذى أنهك صحته، وأمضى عمره في الكد والعمل لتربية ابنه الوحيد، كان قرار الابن بإحالة والده للتقاعد .. !! قاطع استرسال عم "بركة" لمأساته صوت عامل المطعم وهو يناوله صينية نظيفة عليها علبة كشري وجميع لوازمها من مقبلات، وكوب من الماء البارد مرددا بكل ود : شوية كشري وصاية ياعم "بركة" بالهنا والشفا يا رب منورنا يا راجل يا بركة .
نحى الشريد الصينية جانباُ، اجلس الجرو في حجره واضعا رأسه بين يديه، متعمقاً فيما أوصله لهذا الحال مع ابنه، فقد أصبحا الآن مجرد قضية ضمن ملفات المحاكم والقدر الغادر محدثاً نفسه بألم: ترفع قضية حجر على أبوك وتجيب شهود زور؟ ! ترميني في مصحة يابني !!!؟ كل ده ليه ؟ عشان قلت عايز اتجوز واجيب زوجة تراعيني، وتسعدني في آخر ايامي ؟ باكياً بحرقة : ملعون أبو الطمع والمصالح اللي تخلي الابن يغدر بأبوه !، متابعا في همس المكلوم : من يوم ما هربت من المصحة وحياتي في الشوارع وبين كلاب السكك أهون وأحن على من غدر أغلى الناس على قلبي يابن عمري .
تمسك عم ابراهيم بالجرو الصغير يقبله، بكل حنو، ودموعه الساخنة تسيل على وجنتيه المتسختين هائما في عالم حضن ابنه الرضيع .
تعليقات
إرسال تعليق