قصيدة – أبي
للشاعرة سامية خليفة
بقلم الدكتور حمزه علاوي مسربت. العراق.
أبي
لو تسعفني الكلمات
للبوح
لجعلتها في رثائك سرمدية
لا أريدها أيّ كلمات
بل تراتيل
أغنّيها أناشيد
اتلوها قصائد
يا لقلبي
إن لجّ ذكراك
تليق بمقامك
كلمات أنقشها أيقونات
في الفؤاد
عن حبّ كبير لأب
كان السند في الحياة
عن حبّ افترش لي
الدّرب ورودا.
أبي
كم انتشلتني يداك
يداكَ المباركتان
الدنيا بحر غادر يبتلع
الطفولة الكسيرة
لكن طفولتي كانت بظلك
أصلب من الفولاذ
كنت دوما تدرك استغاثاتي
تسمع أعماق النداء
المختنق في كبد الرجاء
كم لجج بحار الدنيا
تبتلع ولا تشبعُ
كنت تلتفت دوما نحوي
تلاحق أغوار صوتي الدفين
تغمر ضعفي بحضن حصين
اليوم أنا بدونك صرت الطائر الكسير
السند أمسى الحلم العقيم
الحياة أمست الوادي السحيق
لكنك حتى في الحلم أبي
تسمع النداء!!
تخترق عباب المعجزات
تغمر عجزي تنجدني من غرق مكين
بابتسامة ساحرة تمدني بالقوة
يا لأبوة تكتسح برزخا
وجنة
تأتيني في لحظات ضبابية
تمسح الغبش عن مرآة الروح
لتجلو الأحزان برؤى وردية!
معلومة تهمك
تستهل القصيدة بصمت .. بغصة الكلام .. وبتأفف روحي ..وأنفاس ثكالى …حيارى ، تحاول الشاعرة ان تفصح عما في داخلها من عذابات الزمن ، وخطفه لمن اضنته المتاعب وساقته الأقدار إلى حيث القرار . تحدثت القصيدة عن الفقدان ، وشهقة الموت التي خطفت ما أعز عليها العمر .وطأت الروح ما بين الامتناع والتأمل ؛ ما بين خيال والدها الماثل أمامها ، وإيمانها بقدره . أعطت الشاعرة حركة زمنية بين ماض وحاضر ؛ بين الذكريات الجميلة وحاضر الألم واللوعة والنظرة إلى الماضي لتشفي غليلها من ظمأ أرهقها وأرهب شوقها . عجت القصيدة بنقلات لفظية مابين الراحل والسرمدي .انتفضت من غبار صمت الكلمات واتجهت الى انشاد التراتيل ؛ وهذا ما دفع الشاعرة الى تطييب النص بمسحة دينية ودنيوية :تراتيل وأناشيد والتي وجدت فيها عالما تفرغ به شحناتها السلبية ، وتطفىء الحزن الغافي على رموش عينها . ما بين الرفض والقبول جاءت النقلات الإيقاعية الموسيقية لتضفي جمالية أكثر على النص وتكسر توقع القارىء ، والبدء بصياغة صورة شعرية جديدة تحمل دلالة تعبيرية جديدة تتعشق مع دلالات النص السابقة واللاحقة في القصيدة . أنجزت الشاعرة تحولات زمنية موسيقية من الترتيل ، الإنشاد ، والتلاوة ؛ من اللغة اللفظية الى اللغة الصوتية الإيقاعية . تعيش الشاعرة ذكريات الماضي وانبعاثها ؛ ما بين انبعاث واحتفال الحاضر بمقام من فارقها . تنهل الشاعرة مما هو مخزون في الذاكرة ، وما هو هاجد في العقل الباطن . تستخدم مراعاة النظير في اختيار الألفاظ التي تختلف في الظاهر وتحمل معنى متقارب ومنسجم مع النص الشعري : أناشيد وتراتيل ، فالنشيد هو ولاء ، احتفال وثناء ، أما الترتيل فولاء إلهي ، كلاهما يقتنيان سلما موسيقيا متقارب اللحن ؛ وكذلك الأغنية والتلاوة ،فلكل منهما مقام موسيقي ، أي تزاوج اللفظ واللحن. يغدق التنوع اللفظي والإيقاعي صور شعرية جديدة ، وامتدادات مفتوحة التأويل ، وهذا ما يضفي طابعا جماليا للنص الشعري. تنتقل الشاعرة إلى لغة اخرى وهي السيميائية ؛ اعتمدت الأيقونة التي يتماثل فيها الرمز والصورة فهي مرئية الحضور ، لغياب من أعزها ، أي أنها قائمة على عنصر المرادفة لصورة فقيدها ، فما بين الدال والمدلول جاءت الصورة الذهنية التي جسدت مقام والدها . تظهر الأيقونة الواقع الروحي لوالدها ، فهي إنتاج لواقع بصري ؛ ولهذا استطاعت أن تناظر بين الروحي _ روح والدهاوالصورة الحسية المتمثله برثائها اللفظي المادي . تتأجج عاطفة الحب لأبيها ، هذا ما يولد رد فعل ذهني لها ، تنبلج عنه ولادة اهتزازات حسية بالفقدان والحزن . عملت الشاعرة على رجرجة النص وإثارة الرواسب اللاشعورية الكامنة في العقل الباطن ، ومنحه الانسيابية ، والرؤى المتنوعة ، وإكرام المتلقي بفسحة من التأمل والمشاركة الوجدانية من خلال معايشته للنص . تكرر الشاعرة كلمتي” أبي و يداك” عند استهلال كل مقطوعة لتتخذ منها توكيدااا للفكرة التي بنيت عليها القصيدة ، وإنالة تناغم موسيقي للنص يسهم في ترسيخ الأنساق الشعرية ووحدتها . تستخدم الشاعرة الاستفهام اللغوي بحثا عن مساحة واسعة تعبر من خلالها عن القلق والتأسي للرحيل ، وتستثير المتلقي كي يبحث عن الدلالة التي تختبىء خلف السؤال، وكشف الأبعاد النفسية للشاعر . لا ظل يظل لها ..ولا يد تبارك لها .. ولا منقذ لها ، الا والدها ؛ فهناك من انهشته الدنيا وألقته أسيرا .. يصارع وهنه.. يلثم التراب فاه .. أمواج الموت تتلقفه وتقذفه صريعا ؛ لكن وجود أبيها كان من يحميها . غرب وتغربت من بعده ”بابا” ولم يعد لها نطق جهار ، لم يسعفها العيش مددا ويمحو عنها الحداد، وتصبح كف أبيها ودادا وسدادا . تتحدث الشاعرة عن تواصل حركة الماضي واستغاثاتها ، وارتمائها في حضن أبيها ؛ وهذا بدوره يكثف حركة الدلالات داخل النص ؛ فالتنوع في الصور الشعرية يعظم التآلف المعنوي واللفظي للقصيدة. عملت الشاعرة على إغناء نصها الشعري بإيقاعات صوتية مابين أعماق النداء وأعماق البحار في ظلمتها وتردد أمواجها . تعاود الشاعرة إلى الاستفهام الذي يعبر عن قلة حيلتها وقلقها ..أطفال تغربت وغربها البحر ، ساقتها الاقدار ، تيتمت ورشفها صخب الموج ؛ كل هذا يشير إلى اعتصام أبيها لها ، وتعقبه لصوتها ، واحتضانها . تكتظ ذاكرة الشاعرة بالصور الذهنية ، ما بين طفولتها الماضية _ الاحتضان ، وما بين وجودها الحاضر _ الضياع _ ، هذه الاحالات اللفظية تخلق إيقاعات زمنية موسيقية تسعر عاطفة المتلقي : ما رأته بالامس وما تراه اليوم . تختلج هذه الرؤى المتغايرة جمود القصيدة وتحدث دلالات جديدة تترابط عضويا مع ما سبقتها في النص. توظف الشاعرة الضمير” انا” لتوكيد ذاتها وإفشاء البعد النفسي والقلق من وجود اليوم لما يحدث حواليه.اتخذت من لفظة ”الكسير” دلالة رمزية للتعبير عن الحزن ، كسير الخاطر ، التشتت النفسي . أصبح ماكان يؤازرها حلما قاحلا ، وحياتها واديا قصي المسافات ؛ كل شيء أصبح صعب المنال، لكن حتى في الحلم يسمع النداء؛ كل ذلك يهب استمرارية الزمن ، وحضور الخيال ، واشتغاليات العقل الباطن ، وانشداه الذهن في مواكبة الحدث . تتجول الشاعرة ما بين الحلم _ اللاشعور_ ذكريات الطفولة ، واليقظة الشعور أي غير الممكن في عودة أبيها :المعقول واللامعقول . توظف الشاعرة ”عباب المعجزات”للدلالة عن وفاء وتضحية والدها بتجاوزه الحواجز واحتضانها ؛ فالنص الشعري يعبر عن الكبت . تعيش الشاعرة حالة من الموج الصاخب والغامر ، لا تشعر إلا بوجود والدها ، منقذها ؛ فهي تتخذ من ابتسامته دلالة تعبر عن الفعل اللاإرادي للقلق . استخدمت اللغة الصوتية واللغة اللفظية _ الابتسامة_ كوسيلة اتصال مع والدها في النص الشعري . تعتمد الشاعرة النداء التعجبي للتعبير عن انفعالات نفسية ، وإعطاء سمة دينية لنصها الشعري ؛ وحيازة نقلات مكانية ما بين البرزخ والجنة كي تضفي على النص السمة الإيقاعية اللفظية. اتخذت من ”المرآة” دلالة رمزية لاثبات وجودها الذاتي ؛ فهي تعاني من التوتر النفسي الذي يخلق لها رؤية ضبابية ، تزول بإشراقة الشمس_ مجىء والدها ‘_ وزوال ما كان غافيا على بصرها ؛ حضور رؤية والدها يمنحها رد فعل ذهني . احتفلت القصيدة بالتفاعلات المكانية والزمنية التي منحت النص الشعري عمقا معنويا ‘ لفظيا وايقاعيا. اتمت الشاعرة القصيدة بحلمها الوردي ، لتجد فيه عالما يحقق ما تمنته في عالمها الطبيعي .
تعليقات
إرسال تعليق